د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
من المواقف الفريدة في السيرة النبوية، موقف صحابي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم طلبًا عجيبًا، وكان ردُّ فعل النبي صلى الله عليه وسلم أعجب.
من المواقف الفريدة في السيرة النبوية موقف صحابي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم طلبًا عجيبًا، وكان ردُّ فعل النبي صلى الله عليه وسلم أعجب؛ فقد روى الترمذي وهو صحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ، قَالَ: «لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ».
العجب من الصحابي الذي يُصَرِّح أنه لا يستطيع التشبُّث بكل شرائع الإسلام.
والأعجب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يردَّ عليه بقوله إنها كلها مهمة، إنما ذكر له أمرًا واحدًا!
والتفسير أن هذا الأمر ليس انتقاصًا من بقية الشرائع، ولكن لأسباب منها:
أولًا: الذكر الكثير يتيح للعبد أن يكثر من الأعمال الصالحة الأخرى، لأن الذكر يحيي القلب، والقلب الحي قلبٌ نشط يسعى لفعل الخير كله. روى البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ»، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم دفعه بذلك إلى كل الأعمال، وليس لعمل واحد.
ثانيًا: سهولة الذكر على اللسان والنفس، فلو أمره بأمر فيه معوِّق نفسي أو مادي لما استطاع المواظبة عليه (كالإنفاق مثلًا، أو صلة الأرحام، أو الدعوة، أو الجهاد).
ثالثًا: تحقيق حسنات كثيرة سريعًا، فالحسنة في ثانية، والحسنة بعشر أمثالها، فتحقيق ألف حسنة يمكن أن يكون في دقيقتين، خاصة أن هذا يمكن أن يكون في فراغات بينية.
رابعًا: بالذكر تكون في معية الله، فهو يذكرك؛ لقوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]، وروى البخاري عَنْ أَبِي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ".
لكل ذلك رفع الرسول صلى الله عليه وسلم قدر الذاكرين فوق غيرهم:
· روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ جُمْدَانُ، فَقَالَ: «سِيرُوا هَذَا جُمْدَانُ سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ» قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا، وَالذَّاكِرَاتُ»[1].
· وروى الترمذي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ»؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: «ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى».
o فهذا الذكر لا يحقِّق الكثرة فقط، ولكن الثقل أيضًا، ولهذا علَّق معاذ بْنُ جَبَلٍ على الحديث السابق بقوله: «مَا شَيْءٌ أَنْجَى مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ».
o قد يخطر على ذهن السامع أن أفضل الأعمال هو الإنفاق في سبيل الله لكون الحسنة فيه بسبعمائة وأكثر، أو الجهاد ذروة سنام الإسلام، ولذلك ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذكر أعلى من هاتين العبادتين الكبيرتين، وليس ذلك فقط، إنما رفع الذكر فوق إنفاق الذهب والفضة، والجهاد الذي يُفْضِي إلى الشهادة (ضرب العنق)!
يفهم أيضًا من وصية النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله الإكثار من الذكر، وليس مجرد الذكر، وهذا يتوافق مع ما جاء في القرآن، على نحو قوله الله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا} [آل عمران: 41]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41].
وحيث أن الكثرة أمر نسبي، فقد حدَّد النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الأذكار عددًا، وهو على الأغلب مائة، ونذكر منها في هذه الحلقة أربعة. يساعدك على فعل هذه الأذكار (عدَّاد الذكر):
1. أستغفر الله: ورد في مسلم عَنِ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ»[2].
2. سبحان الله: فعن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكْسِبَ كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ حَسَنَةٍ؟» فَسَأَلَهُ سَائِلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: كَيْفَ يَكْسِبُ أَحَدُنَا أَلْفَ حَسَنَةٍ؟ قَالَ: «يُسَبِّحُ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ، فَيُكْتَبُ لَهُ أَلْفُ حَسَنَةٍ، أَوْ يُحَطُّ عَنْهُ أَلْفُ خَطِيئَةٍ».
3. سبحان الله وبحمده: جاء في البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ".
4. التهليل: البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ الرَسُولَ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ".
الأذكار الثلاثة الأولى يأخذ كل واحد منها من دقيقتين إلى ثلاث (7 دقائق على الأكثر)، والرابع يأخذ 8 دقائق، فالكل يحتاج إلى ربع ساعة.
هذه مجرد مجموعة للتدريب؛ وإلا فالأذكار كثيرة:
· سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم
· سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر
· أستغفر الله الذي لا إله إلا هو وأتوب إليه
· لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم:
· الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
· أذكار الصباح والمساء
· أذكار الأحوال المختلفة؛ كدخول المنزل أو الخروج منه، أو الطعام، أو النوم.
نسأل الله أن يجعلنا من الذاكرين كثيرًا والذاكرات، وأن يتقبل منا أجمعين[3].
[1] في طريقه لحجة الوداع، وجبل جمدان قبل مكة بمائة كيلو متر تقريبًا. والمفرِّد هو من سبق أقرانه لأن معه بعيرًا واحدًا فحركته أسرع.
[2] يغان: يتغشاه فتور، فيُعِدُّ ذلك ذنبًا فيستغفر.
[3] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك